الأحد، 5 أغسطس 2012

المرجعيات الدينية ....ومكانتها الاجتماعية بين الناس !!

  - دراسة وتحليل -


بقلم الباحث احمد الشجيري



تعتبر المرجعية الدينية في النجف الاشرف من أبرز المؤسسات المنتجة لذلك التراث الفكري العقائدي فهي تشكل مرجعاً موضوعياً ثرياً في تراث المسلمين عامة , ومدرسة آل البيت (عليهم السلام ) خاصة , وهي واحدة من الظواهر الأساسية في تاريخ العراق الحديث والمعاصر - من القرن الخامس حتى يومنا هذا - حيث تعتبر المرجعية الدينية محط أنظارالشيعة في العالم من خلال فكرة الإمامة المعصومة , ويتلقى إتباع آل البيت منها المفاهيم والتوصيات والأوامر والإحكام والتكاليف التي تستهدف : تطبيقاً صحيحاً لأوامر الدين , وسلوكاً مدروساً للمحافظة على ، وهي تمثل المجموعة المنتمية للتشيع كاتجاه عقائدي وسياسي وفقهي له مميزاته و خصائصه : وبذلك عبرت المرجعية عن ذلك التأسيس النظري (( الأصول الأربعمائة))، والسير والتراجم التي حفظها لنا للائحة القادة المعصومين التراث الذي يمكن إن نطلق عليه تراث (المرجعية الدينية المعصومة) والتي كانت تمارس مهامها ووظائفها مرة من المدينة المنورة إلى كل أصناف العالم , وأخرى من العراق كما هو الحال في عصر الأمام علي وشطراً من عصر الإمام الحسن , وجزء من حياة الإمام الصادق والكاظم والهادي والعسكري فلما حل عام (260هـ ) أديرت من جهة الناحية المقدسة أي من الإمام الحجة المنتظر(عج) عن طريق النواب الأربعة فترة سبعين عاماً وبانتهائها بدأت الغيبة الكبرى ودخلت مرحلة جديدة في ممارسة المهام هي المرجعية الاجتهادية حيث يتولى هرم القيادة العلماء والمجتهدون .

لقد تحمل العلماء والمجتهدون ورواة الحديث أعباء المسؤولية في تأدية الوظائف التي كانت تقدمها المرجعية المعصومة للناس , ولعل صيغة النواب الأربعة كانت تمهيداً للانتقال من قبول اراء المجتهد المعصوم إلى طاعة المجتهد غير المعصوم فقد كان القادة في البدء رواة الحديث , وقد صدر لهم المأثور من الأئمة (ع) (( أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا )) فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله )) ([4]) فأعطاهم هذا النص منزله من ترجح إليه الأمة في معرفة الحوادث والنوازل الجديدة وذلك يستبطن معرفتهم الدقيقة بالعلم وبذلك مارس المتصدون لتأدية مهام المرجعية الدينية هذه الوظائف بقدر الوسع الإنساني , وكانت بغداد من 329- 447 مقراً لهذه المرجعية وقد مارست فيها مهام عده منها مهمة (( نقل المعرفة الدينية )) من الأجيال السابقة إلى اللاحقة فيما أطلق عليه بعد حين (( الحوزة العلمية )) ومهمة وإدارة حوار الاختلافات والجدل الكلامي والفقهي والمنهجي مع المدارس الإسلامية في بغداد , وكجزء من مهام المرجعية كانت مواجهة السياسات التاريخية التي طبقت ضد المعرفة الشيعية , والوجود البشري الشيعي (قادة /أتباعاً) من السلطات سواء في جانبها العلمي الصرف أو في جانب الفكر السياسي الحركي منه والتنظيري , بحيث يمكن القول إن الوجود الشيعي بمكوناته كافة كان يواجه جهداً ممنهجاً تقوده (( أجهزة الدولة الأموية والعباسية )) كان في بعض فتراته يستهدف استئصال الوجود الشيعي فكان الصمود والبقاء والمحافظة على الحد الأدنى من الوجود هو الهدف المقابل لتحدي الاستئصال وهو أهم الوظائف للمرجعية لذلك يمكن التلميح إلى أن (( جماعة آل البيت )) كانت الجماعة العقائدية والفقهية والسلوكية المنظمة هيكلياً والتي ظهرت في التطور الاجتماعي الإسلامي عبر تاريخه الطويل من بين جماعات المذاهب الإسلامية لقد كان من جملة المهام التفكير بحماية الجماعة و تطبيقات الوقاية التي تكلف بها المرجعية الدينية .. لذلك جاء قرارها بالهجرة من بغداد إلى النجف في ( 448هـ) بعد عام من غزو السلاجقة لبغداد وإسقاط الدولة البويهية , وممارسة السلاجقة للاضطهاد والقسوة المفرطة والتمييز المذهبي , ومصادرة الحريات المدنية والفكرية فلم تجد المرجعية إلا إن تقرر (( استحداث مقر جديد لها , له خصائص تحميه من اضطهاد السلطة فاختارت النجف مقراُ لها لعوامل بيئية وسياسية ودينية متعددة لذلك فدراسة الدور المرجعي للشيخ المفيد (413 هـ) , والمرتضى (463هـ) والطوسي في المرحلة الأولى من مرجعيته لغاية (447 هـ) في بغداد , ثم والمرحلة الثانية من (448- 460هـ) التي أسس فيها الحوزة العلمية في النجف الاشرف لتكون بعد ذلك المقر الجديد للمرجعية الدينية للشيعة في العالم أجمع موضوعه مهمة وأساسية في فهم المشهد العلمي والانثروبولوجي الشيعي.بحيث يمكن إن تقدم مثل هذه الدراسة صورة عن معطيات تفكير المرجعية الجاد في حماية هذه الجماعة من تعسف السلطة وهجومات الخصوم وعمليات الاستئصال ولنتابع هذا في ألانتقاله الأولى للمرجعية عام 477هـ
أن أول ما بلغت النظر في انتقال المرجعية انتقال المرجعية الشيعية ( من بغداد - إلى النجف) عام 447هـ .
1. إن المرجعية الدينية للشيعة في بغداد كانت على صلة علمية مستمرة مع إتباع الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى فلم تكن معزولة فكرياً و عقائدياً رغم جهد السلطات المتعافية الذي استهداف العزل وكانت حواراتها وجدلها الكلامي والفقهي تقترب من خلق جو موضوعي للخلاف والتعددية لكنها اضطرت بسبب الإرهاب السلجوقي إلى الاشتغال بالذات في دائرة الفقه والكلام وعلى نطاق المذهب لأجل تركيز الجهد على حماية الذات من التصدع بسبب زخم الاستئصال , وتحول الاساليب من التضاد الى السحق.

2.إن المرجعية الدينية - رغم الظروف غير الجيدة - التي عاشتها إلا أنها أنجزت تراثاً علمياً ضخماً فلقد أحصى للشيخ المفيد قرابة (200) كتاب ورسالة في الفقه والكلام والحديث , وأحصى للسيد المرتضى قرابة (70) مصنفاً وقد انشغلت المرجعية في النجف بإعادة تصنيف التراث الشيعي (في مجال الفقه/ الحديث/ الكلام/ التفسير . . . الخ) كما هو الحال كله في انجازات الشيخ الطوسي والسمات التي تميز مؤلفاته كالدقة والاصالة والجمع المنظم.
3.إن المرجعية الدينية لم تتأثر بالخصوصية التبريرية التي كانت سمة الكثير من الدراسات التي ظهرت في العصر السلجوقي إنما كان منعقدها الرابطة الدينية وترصين المنهج العقائدي , والتعمق العلمي ولذلك نجد هذا واضحاً في إنتاجها التفريعات , والتوغل في عرض الأدلة وتحليل الأدلة ونقدها , ودخول النزعة الفلسفية والمنطقية في نتاجها , وربما لذلك السبب قد غلبت على أنتاجها المعطيات الأصولية , والفقه الاستدلالي في معظم تقريرات الدرس الحوزوي , وأعتبر التبليغ والقضايا السياسية والاجتماعية من المهمات التي يشتغل بها الخط الثاني من العلماء أي المهام التالية على الأداء والوظيفة المرجعية الأساسية ونلحظ أيضا قلة النتاج العلمي في التفسير والحديث في الانتاج المرجعي قياساً على أنتاج الفقه والأصول والكلام والفلسفة وفي مجال الحديث لا نجد في التفكير المرجعي الشيعي ما موجود في الوسط غير الشيعي مما يسمى بالصحاح دراية ورجالاً وشروحاً وبسطاً في العلل الروائية فالرواية الحديثية عند المجتهدين الشيعة يبقى توثيقها جزءاً من الاجتهاد وهو من المتغيرات , فيمكن إن يتبدل الحديث من الصحيح إلى الحسن في يوم من الأيام ويمكن إن نكتشف إن ما كان ضعيفاً من الأحاديث قد نجد له توثيقاً كان خفياً فأكتشفه عمل تنقيبي , لذلك فمخرجات هذه الوظيفة المرجعية من صنع (( القادة المجتهدين )) الذين يملكون الأدوات والآليات التي يستطيعون بها عملية الاستنباط ضبطاً محكماً .
4.لقد تبنت المرجعية الدينية الاجتهادية منذ نشأتها من 330هـ حتى الآن مقولة استمرار الاجتهاد - ولكن لم تعتمده هدفاً بلا آليات ووسائل محكمة بل مع ضبط محكم للأدوات والممارسة الاجتهادية .
تستبعد المرجعية الشيعية اغلب الأصول التي تتعارض فيها الظنون المتقابلة والآراء ووجهات النظر التي تتمتع كلها بدرجة واحده من المقبولية من جهة الدلالة كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة , لذلك فان عملية الإفتاء الشرعي في الوسط الشيعي عملية منضبطة جداً , فلا تقبل الفتوى من غير المجتهد الجامع للشرائط , وبذلك لم تبرز ظاهرة فوضى الإفتاء في الوسط الشيعي في حين لاتزال هذه الفوضى ماثلة في الوسط الفقهي غير الشيعي .
5. قرنت المرجعية الشيعية بالاجتهاد (( قضية التقليد)) الذي اعفي غير القادر أو من لم تتح ظروفه إن يتوصل إلى درجة الاجتهاد من الإلزام بالاجتهاد , وأجازت له العمل على وفق افتاء من يراه متمكناً من حملة درجة المجتهدين المعترف بهم , وبذلك شكلت ثنائية الاجتهاد والتقليد واحده من وسائل الضبط الاجتماعي والسياسي فضلاً عن الضبط المعرفي الديني وهنا نلاحظ الوظيفة المركبة من (( بقاء الاجتهاد مستمراً , والضبط في هذه امتلاك أدواته , وحصر الإفتاء بأهل العلم بعد تشخيصهم أكاديمياً )) بحيث تمنع هذه الوظيفة فوضى الإفتاء وتعدد الفتوى إلى حد التضاد إضافة إلى إلزام إتباعهم بالانقياد التام والطاعة الذاتية لمقررات المرجعية الشيعية .
6.تركز المرجعية الدينية باصرار شديد ومتابعة جادة على خصائص العفة والنزاهة والسلوك القويم وتجعل للبناء الروحي والأخلاقي مكانه مهمة , وتقرر إن صفة العدالة شرط في إمامة الصلاة وتقليد المقلد , وترصد أروقة المرجعية من بين روادها من يكون أكثر قدره على جهاد النفس وبناء الذات بناء عصياً على إمراض العصر وأهمها الفساد والنزوات البشرية السلبية , لذلك فإنها ترسم دائماً برنامجاً للتطهير الذاتي وبناء القيم النبيلة في السلوك الإنساني . . ويتدرج قادة الرأي الشيعي في مدارج الهيكل المرجعي بحسب امتلاكهم هذه الصفة وصنعة العلم والعمق في التحليل فيتدرجون مدارج الرقي حتى يبلغوا مرحلة الشياع بأنهم مؤهلون لكن يكونوا من قادة المجتمع الشيعي , فالقادة لا تختارهم الطبقة الحاكمة , ولا اختيار العامة ولا توصية سابقة ممن سبقهم إنما يتجلى الترشيح من التركيز فقط على المؤهلات الشخصية والعلمية والقيمية.
7.تمارس المرجعية الدينية وظائفها في جو من الاستقلال التام عن الحكومات والمؤسسات والأحزاب والقوى الاجتماعية , وتصر إن يكون الجانب المالي في الحوزة حصراً من المتطوعين لذلك فأنها تأخذ قرارها مستقلة عن كل مؤسسات الضغط , ويكون موقفها الإفتائي والعملي مبنياً على مراقبة الله والخشية منه ومراعاة المصالح الحقيقية للمجتمع والأخذ بنظر الاعتبار متطلبات المستقبل بقدر الوسع, الا انها لا تزال بحاجة الى مزيد من الاستشرافات.
8.ومن وظائفها ممارسة النشاط السياسي والاجتماعي من المسلّم به , أن المجتمع الشيعي نشأ مجتمعاً لا تنسجم رؤاه وتطلعاته مع السلطة التي تعاصره على طول الازمان وقد ظلت هذه السمة تلازم العلاقة بين هذا المكون العقائدي ذي السمات السلوكية والثقافية الخاصة وبين سلطة الدولة واتجاهاتها السياسية والمعرفية والحكومات المتعاقبة فلا بد من فكر عميق يدرك هذه السمة ويتصرف لحماية المجتمع الشيعي المعارض بل المتصادم دائما مع السلطات من محاولات الاستئصال او ضرب عقيدته وتشويها. وقد تتعدد الآراء في أول (( تكون فعلي)) لمثل هذا المجتمع, لكن الذي لا خلاف عليه إن مرحلتين أساسيتين مر بهما تطور المجتمع الشيعي :
الأولى : المجتمع الشيعي في ظل الامامه المعصومة .
الثانية : المجتمع الشيعي في ظل مرجعية المجتهدين .
ويعطينا التاريخ شواهد متعددة في إن المجتمع الشيعي بمعناه العاطفي الملتزم بمحبته أهل البيت (ع) واحترامهم وإجلالهم , وان كان ديدن الغالبية الساحقة من المسلمين لورود النص في مودتهم الا انهم وحدهم المعاقبون على هذه المودة على ان سيرة الائمة (ع) تعكس بجلاء انهم شخوص استطاعوا بسلوكهم القيمي الرفيع إن يستقطبوا حتى خصومهم و المغررين بعدائهم إلى صفهم بالخلق الرباني الرفيع حتى شهد لهم أصحاب التراجم والطبقات أنهم أعجزوا الحكام من إن يفرضوا عليهم عزلة مجتمعية فلجأوا إلى سجنهم واغتيالهم وحجب الناس عنهم ورغم ذلك كله بقي المجتمع الشيعي ملتزماً تماماً بمقولات الأئمة , والتي كانت أقوالهم ووصاياهم في جزء كبير منها تعليمات إجرائية للحفاظ على هذا المجتمع ومواجهة خطر السياسات الاستئصالية التي تعرض لها المجتمع الشيعي - من عصر معاوية كقدر متيقن حتى عصورنا الراهنة في أكثر من بلد من بلدان العالم المعاصر تمثلت في التطهير الطائفي ومصادرة الحقوق المدنية والسياسية والفرص الاقتصادية وكبت الاصوات.
البحث في روايات الأئمة (ع) التي تخص (حماية الجماعة الشيعية) من محاولات وإرادات السلطة الاستئصالية - ضرورة علمية لم تبحث بعد على مستوى التحليل السياسي و الفكري والعقائدي من وجهة نظري .
لقد انتهت مرحلة القيادة المعصومة فعلياً بعد سبعين سنة من تاريخ الغيبة الصغرى التي بدأت (265هـ) وبانتهائها دخل المجتمع الشيعي مرحلة أخرى جديدة هي مرحلة التفكير المشترك بين القادة والقواعد البشرية للتشييع انتجت الالتزام بقيادات علمية ارتقت في مجال امتلاك العلوم والمعارف و تدربت على ضبط التفكير السليم الذي يفهم تماماً مجريات الوقائع و يستشرف المستقبل لكنها مهما ارتقت علميا وقيمياً فانها تبقى في دائرة الاجتهاد البشري لتستمر الغاية التي من اجلها وجد الهرم القيادي و كان المسار المستمر لضبط الحركة و السلوك داخل التكوين العقائدي المجتمعي )الشيعي) -ينسجم مع سمات الإتباع و الانصياع المترتب على الإيمان المتحصل بآليات عقلية برهانية أو هكذا هو الافتراض ,وحيث إن النصوص قد قدمت حلولاً لكثير من المشكلات والوقائع - فان غياب المصدر المعصوم للنص ,قد نقل جهة الرجوع إلى (رواة الحديث .(
إن المتابعة ضرورة ,والالتزام بالانضباط الهرمي ضرورة وان الرجوع إلى ما ثبت صدوره أمر مفروغ من معرفتهم به, وإما في الجديد فان الرجوع إلى رواة الحديث لاستطلاع ما عندهم هو الحل وقد يفهم منه إن المراد برواة الحديث اؤلئك(الذين يمتلكون ناصية المعرفة الدينية) بناءً على الدلالة الزمنية لذلك المصطلح ,فلا يحصر في تخصص محدد من تخصصات العلم الشرعي .
وقد:ورد عن المفضل بن عمر عن الصادق (ع) قوله (كذب من زعم انه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا ) للدلالة على ضرورات المرجع الشيعي المكلف بالتفكير باجراءات الحماية والانضباط و الالتزام بالخط.
حصل الارتباط الديني - و الزمني المتدخلين مع بعضهما في ثنايا العلاقة بين المجتهدين و إتباعهم من معتنقي المذهب على حفظ (الكيان الاساس) للمجتمع الشيعي.

وقد نقل بعض الكتاب إن الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي (786 هـ ) كان من ابرز من أسس جهازاً مرجعياً ينتشر في البلدان الشيعية في الشام، لتاثره بالبيئة الاكثر تطوراً في سواحل البحر المتوسط.
ولعلى لا اتفق مع من يرى إن المرجعية إبان العلامة الحلي جمعت بين الاهتمام بالشأن العلمي و الشأن الاجتماعي , إذ إن الأصل في القيادة المجتمعية للشيعة انه كان استجابة لتحديات الاستئصال فلا بد من ممارسة الشأن الاجتماعي .
ويلاحظ المتتبع في تاريخ المرجعية الدينية التقليدية أنها حينما تجد إن مؤسسات الدولة ( أيا كانت شرعيتها قائمة بمهام الخدمات العامة ,و حماية المجتمع الشيعي) فإنها تتولى مهامها الدينية والفكرية وتراقب لحماية الوجود الشيعي من أن يتضرر ولكنها تدرك بمسؤولية في ظروف انعدام فعالية المؤسسات الحكومية او عجزها عن وظيفتها في إدارة المجتمع فإنها تمارس مهامها الاستثنائية واجد على ذلك شاهدين:
توزيع المسؤوليات بين المراجع الأربعة السيد(بحر العلوم/والشيخ كاشف الغطاء ,و الشيخ حسين نجف,و الشيخ شريف محي الدين ,في مطلع القرن الثالث عشر الهجري وادارتهم للقضاء و الشأن الاجتماعي لمدينة النجف.
ثانيهما :التصدي للإدارة الاجتماعية بعد سقوط هياكل سلطة النظام السابق في انتفاضة شعبان 1991 حيث صدرت من المرجعية (قائمة) استثنائية , مهمتها ادارة المدينة وتحقيق مصالحها لحين عودة الحياة إلى الوضع الطبيعي.
وقد كان التقسيم التخصصي للعمل داخل النطاق المرجعي مطلع القرن الثالث عشر الهجري - مبادرة ناتجة عن اتفاق,فان مطلع القرن الماضي قد شهد معركة التنباك التي قادها ضد البريطانيين المرجع الشيخ محمد حسن الشيرازي حماية للمصالح العامة للشيعة,لأن منح امتياز التبغ للانكليز حرم الناس من هذا المورد ثم موقف الميرزا محمد تقي الشيرازي إثناء ثورة 1920 ومعه فتح الله الأصفهاني و النائيني و الشيخ الخالصي لرفض تنصيب الملك و القبول بالانتداب البريطاني ثم تصدي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء و الشيخ عبد الكريم الجزائري للدفاع عن مصالح الشيعة و مطالبة النظام الحاكم آنذاك بتلبية بعض التطلعات الاجتماعية لهم.إن هذا يدلل إن لهذه القيادة مهمتين أساسيتين الأولى دائمية ثابتة او الثانية متحركة , أي ما كانت عن استجابة للظروف .. لأجل حماية مصالح الشيعة على التوالي التاريخي للصيرورة والمسار , لذلك اجد نفسي اتفق مع ما تذهب إليه بعض الدراسات من إن الوظيفة الأساسية للمرجعية هي بناء المجتمع وحمايته ,قبل إن تكون عملية صنع الدولة هي مهمة المرجعية لان صنع الدولة مرحلة تالية على صنع المجتمع .
صيانة الشأن المجتمعي إلا إذا تطلب الحال إن تتدخل المرجعية في صنع الدولة فحينئذ تتدخل - استثناء - وتحت مقتضى الضرورة لصنع ((دولة تؤمن حماية الشيعة من خطر مصادرة حقوقهم السياسية و المدنية ومصادرة مصالحهم و تطلعاتهم وهذا ما حصل في مسألة كتابة الدستور العراقي بعد سقوط النظام السابق 2003

فلقد قررت سلطات الاحتلال الامريكي تشكيل مجلس لصياغة الدستور من أشخاص معينين من سلطات الاحتلال وطرحه على الاستفتاء ,عندها تدخل الإمام السيستاني فاصدر أمره بان تجري انتخابات حرة ونزيهة ليختار العراقيون من يقوم بصياغة الدستور ثم يجري التصويت عليه ولشد ما حاولت قوى متعددة احباط هذا المطلب الا انها جميعاً باءت بالفشل لاصرار المرجعية على ذلك.
إن هناك اتجاهاً مرجعياً آخر يرى ضرورة إن تتولى المرجعية إدارة الدولة إدارة مباشرة على قاعدة ولاية الفقيه المتسعة نطاقاً او بوصفها ضرورة شرعية لكن الامتداد التقليدي للمرجعية الشيعية يميل إلى هدف (صناعة المجتمع) و حماية التشييع أولا و أساسا ,إلا إذا فرضت الضرورة التدخل وعندئذ.. تقدر الضرورة بقدرها.
يطرح هذا الخط من التفكير المرجعي نظريتين أساسيتين لتحقيق الهدف (التطلع التاريخي للشيعة) الذي يعد تاريخيا دفاعيا وهو وظيفة حماية الذات و الحقوق و المصالح المجتمعية وحالات صنع المرجعية للدولة -سواء كان ذلك اصلاً- على رأي ولاية الفقيه,او استثناء على وفق النظرية الاخرى فهناك توجهان:
الأول :ان المرجعية تسعى لإقامة الدولة الإسلامية المدينة التي يديرها أهل الخبرة المؤهلون و التي تحترم الثوابت و الكليات و القواعد العامة للنظام الإسلامي ,وتجعل من المرجعية مرشدة ,ومقومة للسلوك السياسي برمته.
الثاني :تتولى المرجعية إقامة الدولة الإسلامية التي يتولى ((الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى ))إدارة المجتمع إدارة مباشرة و أساسية وتخضع السلطات الثلاثة لادارتها.
فالنموذج الأول :يصنع مجتمعا ويؤهله لصناعة الدولة ,والنموذج الثاني يصنع دولة ويؤهلها لصناعة مجتمع.
و على وفق النظرية الأولى لابد من إقامة الدولة المدنية الإسلامية بإشراف و تسديد المرجعية ,وعليه فان الدفق الروحي للساسة و الباعث على الالتزام الذاتي للمواطنين و الانضباط الورعي للجميع (حاكما ومحكومين)هو الذي ينتظره الناس من تجربة سياسية تقودها المرجعية,وهذا لا يتعارض ولا يتقاطع مع مقولة التعارض المزعومة بحجة إن الدولة تقوم على أساس قوة الردع بالقوانين الإجبارية وان أنموذج المرجعية يقوم على قوة الورع الذاتي ..لان هذا الافتراض و التصور هو تصور لا يخرج عن تطبيقات (الدولة المعاصرة الاوروبية غير المرتبطة بأي قدر بالباعث الديني(.
و في نطاق (الدولة المدنية الإسلامية ) التي ترعاها المرجعية ,تحدد الأخيرة حدود الفعل الديني وتحدد مساحة حركته,فهي التي ترسم الحدود وتحدد المهام ,و هي التي تختار مهامها تبعا للأوضاع فانها تحيل على الدولة المدنية التي ترعاها كثير من قضايا التكافل و الضمان الاجتماعي و الرقي الوظيفي و الاقتصادي و تنشغل بالبناء العقائدي و الخلقي ,وتعميق الجهد العلمي في رواقات الحوزة و - سياسياً - هي اما حرصها تنشغل بالقضايا العامة و الكلية و التي لها اثأر مستقبلية بالغة على التشييع أو عموم التدين ,فلا تنشغل بالتفاصيل الفرعية لان ذلك من شأن السلطات التنفيذية و التشريعية .

كما أنها تراقب القضاء و الحقوق والحريات ,وتراقب العدل و الضمان وتلبية الحاجات العامة للناس ,وتراقب حركة التقدم ونوعه ,وتراقب سمات الأداء الحكومي و النيابي بصورة عامة ,بيد أنها لم تقرر بعد إن يصدر عنها تقرير سنوي يكشف عن تقييماتها للأداء في دولة مدنية نشأت بجهدها و مباركتها ليحدد ذلك التقرير للناس وجهتهم في الاختيار للجولات الانتخابية القادمة لاسيما وان مجتمعاتنا لم تمارس بشكل جيد مناخات الاختيار الحر للقيادات السياسية ,وهي لا تزال حبيسة في قيم ديكتاتوريات متعاقبة .على إن الضروري إن نذكر هنا:إن المرجعية الدينية لا يسوغ لها ولا تقبل لنفسها إن تكون مانحة الحكومات و البرلمانات الشرعية و الغطاء لان الموضوعية السياسية تقضي إن رضا الناس بالحاكمين و ورضاهم عن انجازاتهم لمصلحة الناس فهذان العنصران هما اللذان يمنحانهم الشرعية فكان دور المرجعية حث السلطات على كسب الرضا وتحقيق الانجاز.فالمرجعية تساعدهم على تحصيل و تحقيق هذين العنصرين كمقدمة لإقامة دولة مدنية حديثة ترعى الإنسان وتحقق له السعادة و التقدم لذلك :سيتوسط موقف المرجعية بين أمرين:
الأول: إنها لن تضع نفسها موضع المؤازر للسلطات اياً كانت على حساب مصالح الناس خوفاً من ان تلجأ إلى استخدام الدين :لإقناع الناس بترحيل مشكلاتهم إلى الآخرة او تلجأ الى التبرير و الذرائعية,بل تصنع نفسها تماماً مؤازرة للناس,ومدافعة عن حقوقهم و حرياتهم ومصالحهم وتطلعاتهم ,وتترفع من ممارسة إي درجة من حث الناس على ترك مطاليبهم لصالح طبقة الحاكمين.
الثاني:إن تمارس بنفسها تحقيق مصالح الناس ومطاليبهم هي بنفسها بوصفها هي التي تحملت بالاصل مسؤولية ادارة الشأن العام ثمة قضية أخرى:
نجدها في قائمة المهام الأساسية للمرجعية,هي إن الدور السياسي للمرجعية - لا ينحصر (بالنطاق الشيعي) ,لأنها وان كانت دينياً وعقائديا معنية تماماً أو في غالب الأحوال بهذا النطاق إلا أنها سياسياً يجب إن تتطلع إلى أفاق المواطنة كافة .. بكل أطيافها الدينية و المذهبية ,ذلك لأنها ترعى الدولة وترشدها ووظيفة الدولة التعامل مع مواطنيها جميعاً بمنطق المساواة أولا ثم العدل ثانيا ,ثم الارتقاء ثالثاً ولأنها تمارس مهمة إشعار الغير بقيمها النبيلة التي تدفع باتجاه الفعل الإنساني ,لذلك فإنها لا تعتمد لتركيبها الأخلاقي و القيمي على إثارة الحس المذهبي وتحويله إلى تفكير طائفي لإغراض الحشد السياسي أو الانتخابي ,ولا تراهن على سيكولوجيا التعصب , بل تدفع باتجاه ان يصوغ اتباعها برنامجاً سياسياً و اجتماعياً واقتصادياً يصوت له حتى غير الشيعة .
إن تاريخ المرجعية الشيعية يكشف عن قناعة مستقرة في ذاتها على كل العصور أنها على يقين إن الممارسة الطائفية تشكل ضرراً بالغاً على الوجود الشيعي ,لعوامل عديدة أبرزها إن العقل الإسلامي -غير الشيعي- محتقن بأدبيات ومصنفات وكتب ومراجع أنتجتها ظروف تاريخية كانت تنفذ سياسات الاستئصال المعرفية وبناء على ذلك فان هذا العمل يتصرف طائفياً بشكل تلقائي فلا حاجة لاستفزازه واستعدائه و ثانيا ان الاعراف و التوارث التاريخي وقضايا الصراع المذهبي هي المكونة للعقل الديني (غير الشيعي) فأثارة المذهبية بصورة تفكير طائفي يحرك معلولات ذلك التكوين المعرفي ويشكل خطورة إستراتيجية كبرى, فضلاً عن ان الاجتهاد الشيعي يعد سمة لازمة لهذا الفكر يلزم منه الاعتراف بمشروعية التعددية ثم إن سلوك الأئمة (ع) يكشف تماماً عن وجهه أخلاقية شديدة التمسك بمراعاة الكل وتوعية المغررين بالنصب الحقيقة العلمية للتشيع ..
في نهاية بحثي هذا أقول إذا كانت المرجعية الشيعية مضطرة بسبب ظروف و عوامل كثيرة إن تقيم الاتجاهات السياسية وتوجهها باتجاه بناء تجربة أخلاقية تمارس السياسة وليست تجربة سياسة تمارس التسلط,فان ما ترعاه من نموذج قطعاً يجب إن يكون من جنس تركيبها القيمي والأخلاقي وان دوافع هذه التجربة ستكون من جنس دوافع المرجعية في تحقيق رضا الله و رضا الناس و الالتزام بمقولات العمل الصالح.
وإلا :فإنها - على الرأي المشهور- ليست معنية أبدا بالدخول في مثل هذا المعترك - إلا للضرورة القصوى- فهي غير مستعدة ابدآ -بأي قدر- إن تتحمل مسؤولية- ممارسة عمل سياسي غير سليمة لأنها راعية التجربة ,وهي غير مستعدة إن تفقد القها التاريخي لأجل منح الغطاء لحفنة من غير المؤهلين لممارسة السياسة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق