السبت، 4 أغسطس 2012

السجون وتطور مفاهيمها عبر التاريخ – دراسة وتحليل-!!


بقلم الباحث احمد الشجيري 


مفهوم السجن:
وردت الإشارة إلى كلمة السجن في القرآن الكريم في قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) عند قوله تعالى ﴿ يَا صَاحِبَيِ السّجْن أأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْر؟ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهّار﴾ ( سورة يوسف (الآية 39)، وكانت هذه الآية حول رؤيا لسيدنا يوسف (عليه السلام)، وقوله تعالى أيضا ﴿ قَال رَبّ السجنُ أحَبُّ إليَّ ممّا يَدْعُونَنَي إِلَيْه...﴾ (سورة يوسف (الآية 33).
ومعنى السجن في اللغة هو الحبس، والحبس معناه المنع، ومعناه الشرعي هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بلد أو بيت أو مسجد أو سجن معد للعقوبة أو غير ذلك (المرجع 1)، والسجن بالكبير المحبس، وصاحبه سجان، والسجين المسجون.
أما اصطلاحا فيقصد بالسجن تلك المؤسسات المعدة خصيصا لاستقبال المحكوم عليهم بعقوبات مقيدة للحرية ( وسالبة لها وهي تشترك في ذلك مع الحكم بالأشغال الشاقة والاعتقال، حيث يحرم المحكوم عليهم من الخروج أو متابعة الحياة بشكل عادي وفي أجواء طليقة، والحيلولة دون ممارسة أي نشاط ما، وعادة ما يرتبط بالسجون عدة مفاهيم وتسميات مثل الإصلاحيات أو مراكز التأديب أو دور الإصلاح والتهذيب أو التقويم أو مؤسسات إعادة التربية أو غير ذلك من التسميات ، كما يعرف القانون الدولي السجن أو المؤسسة العقابية على أنها "هي مكان للحبس تنفذ فيه وفقا للقانون العقوبات السالبة للحرية، والأوامر الصادرة عن الجهات القضائية، والإكراه البدني عند الاقتضاء" (المادة (25) قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين لسنة 2005 .
أما السجين فيعرف على أنه (الشخص الذي منعت حريته بقصد تعويقه ومنعه من التصرف بنفسه ونقصد بالسجين هنا الشخص الذي عوق ومنع من التصرف بنفسه سواء كان ذلك من خلال وضعه في بيت أو مسجد أو قبوا كما كان سائدا في الوقت الماضي أو كان ذلك من خلال وضعه في بناء مقفل يوضع فيه الأشخاص المتهمون في انتظار محاكمتهم أو تنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم كما هو سائد ومعمول به في الوقت الحاضر).
وهو ما يتوافق مع ما ذهب إليه المشرع القانوني في تعريفه للسجين أو المحبوس والذي يقال عنه أنه "الشخص الذي ارتكب جريمة أو أكثر، مخالفا بذلك نصا في القانون عمدا، ومودعا في إحدى المؤسسات العقابية"
وهذا التعريف له الخصائص الآتية:
1- ركز على الفرد المرتكب لجريمة أو أكثر.
2- من المحتمل أن يرتكب الفرد جريمة أو أكثر.
3- أن أرتكاب الجريمة يكون بصورة عمدية وليست عفوية
4- أن المسجون لابد وأن يودع في أحدى المؤسسات العقابية .
ويشترط في السجن أن يكون مكانا لاستقبال كل من كان على استعدادا للإصلاح والتربية والتقويم،لأنه لو يفقد المحكوم عليه هذه القابلية للإصلاح فلن يجدي إيداعه في السجن، وبالتالي وجوب تسليط آلية أخرى لتطبيق الحكم عليه كبديل للإيداع في مؤسسة السجن.
كما أرتبط مفهوم إعادة التربية بمفهوم السجن، الذي هو الآخر مرادف لمفهوم الحبس، ومؤسسات إعادة التربية هي مراكز للتكفل والتأهيل، وهو وصفا لم يكن من قبل، وإنما جاء بعد مراحل، لتحل بذلك "فكرة التهذيب والإصلاح محل فكرة الزجر والردع،وتجاوزت رسالة السجن عن حد وقاية المجتمع من الخارجين على نظمه إلى المساهمة إيجابيا في تقدم المجتمع بتخريج أكبر عدد ممكن من نزلائه إلى الحياة الاجتماعية مهيئين مهنيا وثقافيا واجتماعيا، وصالحين جسميا وعقليا لاستعادة أماكنهم في عملية الإنتاج في المجتمع"
وبهذا لا فرق بين مؤسسة إعادة التربية والمؤسسة الإصلاحية في التسمية، ذلك أن مراكز إعادة التربية لم تكن سوى بيوتا للإصلاح والتقويم كما عبر عن ذلك السيد رمضان عندما تحدث عن تحول دور السجن من العقاب إلى الإصلاح وأنه "لم يصبح الغرض من إرسال السجين إلى السجن القضاء عليه أو الانتقام منه،
وإنما إبعاده عن المجتمع فترة يشعر فيها بالندم، ويعاد علاجه وتأهيله للتعاون مع المجتمع تعاونا مثمرا بناءا" ومن هذا تصبح مؤسسة إعادة التربية و مؤسسة علاج، ومؤسسة رعاية، ومؤسسة تأهيل، ومؤسسة إدماج، ونحن هنا نعرف السجون على أنها تلك "المؤسسات المعدة لاستقبال المحكوم عليهم بعقوبات مقيدة للحرية، وعادة ما تسمى بمراكز التأهيل أو الإصلاحيات، هدفها تأهيل السجين اجتماعيا، ونفسيا، وصحيا، ومهنيا، وفكريا، ودينيا،...، حتى يجد نفسه بعدها مندمجا ضمن سياق اجتماعي وتفكير رسمي، متطلعا إلى الارتقاء بشخصيته إلى مرتبة الإنسان الواعي والمسؤول".
السجون في الإسلام :-
قال تعالى (( قال ربي السجن أحبّ إلي مما يدعونني إلي ((
الإمام علي ( ع ) (( لا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء , فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان , وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة))
ظاهرة السجون
إنها ظاهرة غير تشريعية ,, فلم يرد عند أي شريعة من الشرائع ,, أنها شرعت السجن كعقاب عن أي جرم ,, ولكن الأمم و المجتمعات بتنوعها وعلى امتداد تاريخها ,, أوجدت أنواع متعددة من السجون ..
ولكن ما يهمنا هنا هو وجهة نظر الإسلام في الأمر :
الإسلام عندما جاء كان مفهوم السجن موجوداً ,, ولكنه حسب طبيعة المجتمع فقد كان سجناً بدائياً ,, وعندما طبقه الإسلام فهو لم يعتبره عقوبة رادعة ,, بل أدخله في باب التعزيزات ..
فالحدود عادة تكون هي العقوبة المقررة على ارتكاب جرم معين ( أي يكون هناك نصوص منصوص عليها ) ,, أما ما يستحق السجن فيترك تقديرها لولي الأمر ,, وذلك لأنه لا يستعمل للجرائم المهمة ,, بل يُستعمل للجرائم الثانوية ..
وكان التشريع بتلك الصورة لأن الجرائم المهمة تترك حرقة في المجتمع ,, لا تهدأ إلاّ بقطع هذا الجزء منها ,, ولو لم يكن كذلك لكثرة الثارات , والضغائن والأحقاد ,, لذلك القرآن يعتبر أن الإماته تولّد الحياة في المجتمع فقد قال (( ولكم في القصاص حياة)) ..
وقد قسمت الشريعة المدة المحددة للسجن لنوعين : النوع الأول أنها حددت للعقوبة حدّ أعلى وحدّ أدنى ,, أما النوع الثاني فالمدّة تكون غير محددة ( يُترك مسجون إلى أن ينصلح حاله ) ... وذلك لأن الإسلام لا يريد أن يحدّ من نشاط الإنسان وليس لديه مصلحة في ذلك ,, فإن بانت عليه علامات الصلاح أُخلي سبيله , لأن الفقه الجنائي هدفه من تشريع العقوبات هو حماية المجتمع ...
ويسقم فقهاء القانون أهداف العقوبة :
1- لتحقيق العدل (( وجزاء السيئة سيئة مثلها)).
2- أو لإيقاع الأذى على المجرم كما آذى المعتدى عليه ...
3- أو لحماية المجتمع : فبعد أن ثبت أنه عضو فاسد ,, وجب تخليص الناس من شره ..
4- أو لأنه عضو من أعضاء المجتمع فخسارة أن يفقد العضو منه ,, لذلك يجب إصلاحه لأنه لبنة في بناء المجتمع ...
أما الإسلام فما يهمه أمرين : 1- إصلاح الفرد .. 2- حماية المجتمع ...
كيف كانت السجون ؟؟
في عهد رسول الله ( ص ) كان الحبس موجوداً ,, ولكنه غير محدد المدة ,, ولم يكن هناك بناء بل كان المجرم يربط بسارية من سواري المسجد ,, ولم يحاول المجرمون يوماً فكّ أنفسهم ,, لأنهم مطوعين نفسياً لذلك العقاب إذ لم يشهد إلاّ بعض الحالات من الهروب ...
ثم جاء عهد الخلفاء فاستخدموا الآبار لسجن أولئك المجرمين وعقابهم ..
إلى أن جاء عهد إمامنا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ( ع ) ,, ففي عهده شهدت السجون تطوراً هائلاً ,, تطوراً لم نحلم به حتى في القرن العشرين ,, فقد وفّر لهم الرعاية والتعليم والعمل ,, وكان إذا مات أحد أقرباؤهم يخرجهم ليحضروا جنازته ثم يعيدهم ,, وكان لا يمنعهم من أزواجهم ,, ويسمح لهم بحضور الأعياد معهم ,, فهو لا يمنعه من الحياة ,, لكنه يريد بسجنه أن يعوقه عن الحياة الطبيعية ,, يريد أن يحسسه بخطئه ,, ويصحي الضمير عنده ...
ثم انطوت هذه الصفحة باستشهاده ,, فعدنا لأصلنا !!!
إذ أن السجون في عهد الدولة الأموية و العباسية شهدت أموراً غريبة عجيبة لا يقرها دين ولا عرف ,, ولا تمتّ للإسلام بأي صلة ,, فقد كان هناك ما يعرف بالسجون العامة والسجون الخاصة ...
السجون العامة كسجن المطبق الذي يوزع على أمهات المدن ,, واشتهرت في عهد العباسيين ,, وهذه السجون لا يعرف فيها الليل من النهار ,, ويموت الإنسان فيها ألف موتة ..
أما السجون الخاصة فهي كسجن الديماس : وهذا كما قيل عنه أن من يرده ,, بعد شهر لا تعرفه أمه ,, وهو سجن في البرية ,, لا سقف له ,, وله سياج ,, المساجين فيه عراة رجالاً ونساء ,, كان فيه 180000 رجل و70000 امرأة ولا يسمح للسجين أن يقي نفسه من حرارة الشمس أو قطرات المطر ,, إذ لو ذهب للظل ,, قام الشرطة بضربه وإيذائه ...نقول : أين تلك السنوات التي أصلت العامل الإسلامي في النفس ؟؟ هل كلها تلاشت بمجرد موت مؤسسها ؟؟والمشكلة أن التاريخ يعتبر كل أولئك ممن يجب الترضي عنهم ,, ويعتبرهم القادة المقتدى بهم ,, رغم أنه يروي قصصهم ,, أمثال الحجاج الذي بنى ذلك السجن ( الديماس ) وغيره الكثير ممن قرأنا قصصهم إذاً لا نعتقد أن المساواة بين الثرى والثريا هي من عمل العقلاء ,, بل هي مفاهيم موضوعة من قبل السلاطين وعمّالهم لحفظ مكانتهم ,, وقام من بعدهم المعجبين بسفك الدماء بخلق الذرائع لهم من أجل إيجاد شرعية لأعمالهم ..
تطور مفهوم السجن ووظيفته :-
تمثل مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي حلقة هامة من حلقات السياسة الجنائية الحديثة ، حيث يتم في هذه المرحلة تحقيق هدف أو أهداف الجزاء الجنائي التي يتم التخطيط لتحقيقها في المرحلة القضائية وتسعى المؤسسات العقابية إلى وضعها موضع التنفيذ في المرحلة التنفيذية ، كل ذلك من أجل القضاء على الخطورة الإجرامية لدى الجناة . وكان مضمون التنفيذ العقابي في العصور القديمة والوسطى خاليا من الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية اللازمة لإصلاح الجنائي ، ثم بدأ هذا المضمون في التحول شيئا فشيئا إلى أن اصبح الإصلاح هو الهدف الأول الذي تسعى إليه المؤسسات العقابية مع الحفاظ على هدف العدالة وهدف الردع نسبيا كما سنرى .
وقد أثبتت الدراسات العلمية الجنائية ـ بعد ظهور علم الإجرام ـ أهمية العناية بالخطورة الإجرامية لدى الجناة ، الناشئة عن عوامل متباينة ، للعمل على استئصالها بالوسائل العلمية ، من أجل إصلاح الجناة ، والحيلولة بينهم وبين العودة إلى الانحراف الإجرامي مرة أخرى . وتهدف هذه الدراسة إلى بيان ما يجب على المؤسسات العقابية المعاصرة في العالم العربي أن تتبعه ، إزاء الانماط الخطرة من المسجونين ، الذين يقترفون أبشع الجرائم ويفلتون من العقوبة الاستئصالية لسبب أو لآخر ، ويعاقبون بالحبس لمدة معينة ، بعدما برزت أهمية الهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي ، وفي مقدمته العقوبة السالبة الحرية ومنهجنا في هذه الدراسة منهج استطلاعي في ضوء مضمون النظام الجنائي الإسلامي . ويناء عليه فقد اشتملت على بيان تطور مفهوم السجن عبر العصور المختلفة وتطور وظيفته ، ونظرا لارتباط ذلك بتطور أهداف الجزاء الجنائي ، فقد سلكنا سبيل البحث عن تطور الأهداف لأنها هي التي تحدد مضمون التنفيذ العقابي في كل مرحلة من مراحل التطور الذي انتهى ـ كما ورد جليا في هذه الدراسة ـ إلى تأكيد أهمية الهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي . كما اشتملت الدراسة بعد ذلك ، على متطلبات تحقيق هدا الهدف الإصلاحي في المرحلة التنفيذية ، سواء من أجل العلاج أو التهذيب أو من حيث إعادة التوافق الاجتماعي والتأهيل للعودة إلى المجتمع ، بعد القضاء على الخطورة الإجرامية في شخصية السجين .
أولا : مصاحبة تطور مفهوم السجن ووظيفته ، لتطور أهداف الجزاء الجنائي .
السجن مفهوم قديم وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام في قوله تعالى " قال السجن أحب إلي ..... " وذكر أنه دخل السجن ولبث فيه بضع سنين ، ووجد السجن في جميع الأزمان والأمصار دون إنكار وبرزت أهميته والمصلحة من وجوده وإن اختلفت هذه المصلحة ووظيفة السجن على مر الزمان .بناء على ذلك نقسم مراحل تطور السجن على النحو التالي :
-1 في العصور القديمة :
كان هدف العقوبة هدفا انتقاميا ، وتطور هذا الانتقام من الانتقام الفردي حيث ينتقم الفرد لنفسه بنفسه ، إلى الانتقام الجماعي بالقصاص من الجاني تحت إشراف الجماعة أو العشيرة ، إلى الانتقام الديني في ظل نظام القبيلة التي تكونت من مجموعة من العشائر ، إذ كان شيخ القبيلة يستند في حكمه إلى الدين ، لمحاولة إرضاء الشعور الديني ، ومع ذلك فقد غلب على العقوبة طابع الانتقام الجنائي . وكانت العقوبات بدنية في معظمها ، ولم تكن هناك حاجة إلى السجون بالمعنى الذي عرف فيما بعد كوسيلة لنتفيذ عقوبات سالبة للحرية ، حيث لم يكن سلب الحرية معروفا كعقوبة آنذاك ، وإنما كانت السجون لإيواء من حكم عليهم بعقوبات بدنية انتظارا لموعد تنفيذها ، وإيواء من اقترفوا جرائم ، انتظارا لمحاكمتهم ، فضلا عن استخدام السجون أحيانا لأغراض سياسية حيث كانت معتقلا لمن يرى الحاكم في وجودهم طلقاء تهديدا لسلطانه ، وكانوا يودعون في السجون لمدد غير محدودة .
2- في العصور الوسطى : كان هدف العقوبة في هذه المرحلة يتمثل في تطهير الجاني وكان للديانة المسيحية آنذاك أثر في التحول إلى هذا الهدف ، كما ادت مبادئ التسامح و الرحمة التي تدعو إليها المسيحية في توقيع وتنفيذ العقوبات إلى التخفيف أو الحد من تعذيب الجناة ، بيد أن هذ الأثر ظل محدودا حيث استمرت العقوبات تتسم بالقوة وعدم الإنسانية . أما السجون في هذه الفترة من التاريخ فقد كانت مهملة من جانب الدولة ، وكانت عبارة عن أبنية مظلمة غير صحية ، تمارس فيها شتى أساليب التنكيل وتعذيب الجناة والمتهمين ، ولم تكن هناك أدنى عناية بالنواحي الإنسانية ، حتى أن السجن كان يضم النساء إلى جانب الرجال بلا عازل أو تصنيف . إلا أنه كان للمسيحية أثرها في نظم السجون ، حيث طالب رجال الدين بتحسين معاملة المسجونين والعناية بهم وتعليمهم وتهذيبهم وتوجيه النصح لهم ، وكان لذلك أثره إلى حد ما في وضع بعض القواعد لتنظيم السجون تضمن بعض الحقوق الإنسانية للمسجونين ، وبتأثير ما لرجال الدين من نفوذ نفذت هذه القواعد وكان لها أثرها في التشريعات الجنائية وقتئذ .
3- ) في العصور الحديثة : ( الثورة على أساليب التعذيب والانتقام ، والاتجاه إلى الهدف الإصلاحي.
في هذه المرحلة ظهرت بعض الحركات الإصلاحية التي تناولت القانون الجنائي برمته من المرحلة التشريعية إلى التنفيذية مرورا بالقضائية ، وتفاوتت درجة ونوعية الأفكار الإصلاحية بحسب طبيعة فلسفة كل مدرسة من المدارس الفكرية والجنائية التي ظهرت في هذه الفترة ، ابتداء من المدرسة التقليدية وانتهاء بمدرسة الدفاع الاجتماعي في صورته الجديدة للمستشار الفرنسي مارك آنسل ، وفيما يلي موجز فلسفة و أفكار هذه المدارس .
أ ) في فكر المدرسة التقليدية الأولى : ( المنفعة الاجتماعية والردع العام(
ظهرت هذه المدرسة في النصف الأخير من القرن الثامن عشر على يد الفقيه الإيطالي سيزاري دي بيكاريا ( 1738 ـ 1794 م ) الذي أعلن الثورة على قسوة العقوبات وبشاعتها ، فضلا عن إدانته لتعسف القضاة وتحكمهم في مصائر المتهمين . وكان الغرض من العقوبو في هذه المرحلة زجر الجاني حتى لا يكرر اقترافه للجرائم ، وردع غيره حتى لا يقلده فيها . وبناء على ذلك نادى بيكاريا بضرورة إحداث إصلاح اجتماعي في السجون ، بيد أنه لم يتم إلا في الحدود الضيقة التي تتفق مع الهدف النفعي من العقوبة كما رسمه بيكاريا ومن تزعم معه اتجاه هذه المدرسة التقليدية ، ولذا كان نفيذ العقوبات على نحو جامد وبأسلوب سلبي ، دون أدنى تفكير في تفريد أوتصنيف ، و الاكتفاء بإلغاء أساليب التعذيب .
ب ) في فكر المدرسة التقليدية الثانية : ( العدالة ثم الردع العام) قامت هذه المدرسة من حيث أساسها الفلسفي على نظرية العدالة المطلقة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724 ـ 1804 م ) الذي حدد الغاية من العقاب بإرضاء شعور العدالة لذاتها مجردة عن فكرة المنفعة الاجتماعية التي قامت عليها المدرسة التقليدية الأولى ، فالأذى الذي تحدثه الجريمة لا يصلح إلا عن طريق التكفير والتطهير بالعقاب وأن العقوبة هي عدل الجريمة ـ كما قال هيجل ـ لأنها باقترافها ( أي الجريمة ) تعد نفيا للعدالة التي يقررها النظام القانوني ، ولذا تكون العقوبة نفيا لذلك النفي .
ولم يقتصر هدف العقوبة عند هذه المدرسة على العدالة بل حافظت كذلك على هدف الردع العام ، وكانت العدالة أولا والردع العام ثانيا . وقد ترتب على تأسيس أفكار هذه المدرسة على فكرة العدالة ، التفكير في مبدأ تناسب كيفة تنفيذ العقوبة والظروف الشخصية للمحكوم عليه ، ولكن بصورة محدودة حيث كان ذلك نتيجة لما طالب به أنصار هذه المدرسة من وجوب التعويل على مدى ما يتوافر فقط لدى الجاني من المسؤولية الشخصية المؤسسة على حرية الاختيار وذلك في المرحلة القضائية .
ج ) في فكر المدرسة الوضعية الإيطالية : ( الردع الخاص فحسب) :
ومن أبرز زعماء هذه المدرسة : سيزار لومبرزرو ( 1835 ـ 1909 م ) واتريكو فيري ( 1856 ـ 1829 ) روفائيلي جاروفالو ( 1852 ـ 1934 ) ، وكانت نقطة البداية في فكر هذه المدرسة أن الجريمة حقيقة إنسانية اجتماعية ، ولذا يجب التريز على شخصية الجاني تركيزا كليا دون النظر إلى المسؤولية الأدبية ، وأن رد الفعل الاجتماعي ينبغي أن ينحصر في التدابير الاحترازية دون العقوبات التقليدية . وبناء على ذلك فيجب أن يهدف تنفيذ التدابير الاحترازية الممثلة للجزاء الجنائي ، إلى مجابهة العوامل التي أدت إلى وقوع الجريمة ، سواء ما كان منها متعلقا بشخص الجاني أو بعوامل أخرى خارجية .
لذا فإن الهدف الذي ينبغي أن تعمل المؤسسات العقابية على تحقيقه ، يتمثل في استئصال هذه العوامل بالعلاج أو التهذيب ، او الاستئصال كليا إذا لزم الأمر ، ولم يكن العلاج مجد .
إلا أنه في نهاية المرحلة التي ظهرت فيها المدرسة الوضعية الإيطالية وقبل حلول القرن العشرين نشطت حركات الاصلاح العقابي ، وأنشئت عدة إصلاحيات للمسجونين على سبيل المثال إصلاحية في نييورك أنشأها شخص يدعى ( بروكواي ) وحاول أن يطبق عليها بعض).
الأفكار الإصلاحية وفق مجموعة مبادئ من أهمها :
* أن المجرم شخص يقبل التقويم والإصلاح.
* أن التقويم والإصلاح هو حق الفرد وواجب المجتمع .
* أن تعويد المجرم على التعاون مع عامل هام من عوامل تحقيق الإصلاح
* أن هذا التعاون لا يتأتى إلا إذا كان من حق إدارة السجن أن تحكم في مدة العقوبة إيجابا أو سلبا حسب مدى تجاوب وحسن سلوك المحكوم عليه داخل السجن .
د ) في فكر المدرسة التوفيقية : ( الإصلاح أولا والردع ثانيا(
قامت هذه المدرسة في أوائل القرن العشرين بزعامة الفقهاء : تون ليست الألماني ، وهامل الهولندي ، وبرتز البلجيكي . وحاولت أن توفق بين الاتجاه التقليدي والاتجاه الوضعي ، فحافظت من الاتجاه التقليدي على مبدأ المسؤولية الجنائية الشخصية المؤسسة على حرية الاختيار ، وأخذت من الاتجاه الوضعي فكرة التدابير الاحترازية ، والتركيز على شخصية الجاني . فجمعت بين العقوبة بمعناها التقليدي البحت بحكم طبيعتهم ، وبين التدابير الاحترازية لتوقيعها على الشواذ ، والمعتادين على الإجرام ، والأحداث.
وأوضح أنصار هذا الاتجاه التوفيقي أن العقوبة لا تزال هي الوسيلة الفعالة للردع العام ، لإعادة التوازن إلى الشعور الجماعي الذي تأذى بالجريمة . كما أكدوا أهمية القضاء على الخطورة الإجرامية في شخصية الجاني ، وضرورة تفريد الجزاء في المراحل التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وفق ما أوضحه ريمون سالي ـ صاحب نظرية تفريد العقاب ـ حتى تحقق العقوبة أغراضها المتعددة والمتمثلة في الردع والتطهير وإصلاح الجاني ، وتحقق التدابير أغراضها المتمثلة في العلاج والتهذيب ثم التأهيل . ويقصر سالي نظريته على مقترفي الجرائم الطبيعية أو الحقيقية ( كالقتل والضرب والجرح والسرقة ) أما الجرائم المصطنعة أي التي تصطنعها الدولة بالتجريم القانوني تبعا للتطور الحضاري ( كالجرائم الاقتصادية والمالية ) فيخرجها سالي من نطاق نظريته ويرى أنها لا تحتاج إلى تفريد تنفيذي . وعلى الرغم من عناية هذا الاتجاه التوفيقي بالهدف الإصلاحي للجزاء الجنائي على النحو المشار إليه ، والعمل على الأخذ بأساليب العلاج والـاهيل في السجون في المرحلة التنفيذية ، إلا أنه عنى إلى جانب ذلك بالردع العام الذي سعى إلى تحقيقه بالعقوبات التقليدية وأهمها عقوبة الحبس .
هـ - في فكر مدرسة الدفاع الاجتماعي ( العلاج وإعادة التأهيل)
أستمرت النظرة إلى التجريم والعقاب في مسارها التطوري حتى دخلت مرحلة جديدة سميت بمرحلة السياسة الجنائية الاجتماعية وقد بدأت هذه المرحلة مع بداية ظهور اتجاه الدفاع الاجتماعي للفقيه ـ جراماتيكا ـ سنة 1945 وتأسيس مركز الدفاع الاجتماعي في نفس السنة . وفي سنة 1954 أصدر المستشار الفرنسي مارك أنسل كتابه في هذا الصدد تحت عنوان ( الدفاع الاجتماعي الجديد ) حاول فيه أن يضع صياغة جديدة للدفاع الاجتماعي ، وبذلك أضبح للدفاع الاجتماعي اتجاهان ، الأول اتجاه جراماتيكا ، والثاني اتجاه مارك أنسل . ـ اتجاه جراماتيكا : ( الفرد هو كل شي ء ) : أسس جراماتيكا افكاره على حقيقة الطبيعة الانسانية ، من ناحية ، وطبيعة علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من ناحية أخرى . فمن ناحية الطبيعة الانسانية يرى جراماتيكا أن الانسان كائن مشحون بالأنانية المطلقة ، وهو يود لواستطاع أن يضرب صفحا عن المجتمع ، كما يتمنى أن يمارس من الأفعال ما يشاء ويهوى ، وكل هذه الرغبات لا يقف أمامها سوى المشاعر الانسانية الناتجة عن تأثير الدين والتربية والمبادئ والمثل والمعتقدات الاجتماعية وغيرها . ومن الناحية الثانية يرى جراماتيكا أنه يجب أن تخضع الدولة لمقتضيات احترام الحقوق الاساسية للإنسان والعمل على حمايتها . ويطبق جراماتيكا كل هذه الأفكار على مقترفي الجرائم ، ويرى أن الجاني هو مركز الثقل وليست الحماية الموضوعية للمصالح ، وهذا يتطلب في نظره أن يكون مضمون التنفيذ الجنائي ( اللاجتماعي في نطره ) هو العمل على تهذيب القادرين على العودة إلى المجتمع ، وعلاج غير القادرين على ذلك وتأهيلهم للعودة أعضاء صالحين . ولذا لا يعترف جراماتيكا بالجزاء.
__________________________________________________________
المصادر المعتمدة :-
1. تاريخ القانون و النظم القانونية للدكتور صاحب عبيد الفتلاوى .
2- شرح قانون العقوبات القسم الخاص ..الدكتور ماهر عبد و الأستاذ سويش الدرة
3- كتاب ثنائية السجن والغربة - د. فتحي عبد الفتاح.
4- كتاب لمحمود السعدنى .. الولد الشقى فى السجن.
5- كتاب نجوم المحاماة فى مصر واوربا للمستشار عبد الحليم الجندى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق